الحاج قاسم الهمداني: ذاكرة سطات الحية ورجل الكلمة النبيلة حين يكون الورق امتدادًا للروح
الاتجاه السياسي
بقلم
شعيب خميس
في مدينة سطات، حيث تختلط الأزقة برائحة الورق والحبر، وتتنفس الجدران عبق الكتب القديمة، يطل علينا اسم لا يُنسى، رجلٌ لم يكن مجرد بائع كتب، بل كان حارسًا للمعرفة، وسادنًا لمحراب الثقافة. إنه الراحل الحاج قاسم الهمداني ، الذي غادرنا إلى دار الخلود، تاركًا وراءه إرثًا إنسانيًا وثقافيًا لا يُقدّر بثمن.
كان الحاج قاسم، رحمه الله، من أولئك الذين لا يمرّون مرورًا عابرًا في الحياة، بل يتركون بصماتهم على الأرواح قبل الأماكن. لعقود طويلة، ظلّ وجهه مألوفًا في سطات، يقف خلف رفوف الكتب والمجلات، لا يبيعها كسلعٍ تجارية، بل يقدّمها كرسائل تحمل نورًا، وكأن كل كتاب بين يديه يحمل جزءًا من روحه. لم يكن الزبون عنده مجرد مشترٍ، بل كان شريكًا في رحلة التنوير، ورفيقًا في درب المعرفة.
في زمنٍ تتسارع فيه الخطى نحو الرقمنة والنسيان، ظلّ با الحاج قاسم صامدًا، مؤمنًا بأن الورق لا يموت، وأن الكلمة المطبوعة تظلّ أصدق من كل الشاشات. وقد جسّد هذه القناعة في مطبعته “فارير” بحي السماعلة، التي تحولت إلى منارة يقصدها الباحثون عن الجودة والاحترام، حيث يُستقبل المرتفقون بابتسامة صادقة، وتُحلّ المشاكل بروح الخدمة، ويُنجز العمل بإتقان لا يعرف الكلل.
لكن الرحيل لا يعني النهاية، فالشعلة التي أوقدها هذا الرجل النبيل لم تنطفئ، بل انتقلت إلى يد أمينة، إلى نجله الحاج محمد الهمداني، الذي حمل الأمانة بكل وفاء، وسار على خطى والده بنفس الإيمان والالتزام. لم يكتفِ بالحفاظ على الإرث، بل طوّره، منفتحًا على شركاء جدد، ومواكبًا لتطورات العصر، دون أن يتخلى عن جوهر الرسالة التي بدأها والده: خدمة الكلمة، واحترام القارئ، والوفاء للثقافة.
لقد كان الحاج قاسم الهمداني أكثر من مجرد اسم في سجل المدينة، كان ذاكرة حيّة، ورمزًا للصدق والأمانة، ومدرسة في التفاني والعمل النبيل. رحيله ترك فراغًا، لكنه خلّف وراءه سيرة عطرة، وأثرًا طيبًا سيظلّ يُروى للأجيال، كلما فتحت كتابًا في سطات، أو مررت بمطبعته، أو سمعت اسمه يُذكر بمحبة.
رحم الله هذا الرجل الذي عاش كبيرًا، ورحل كريمًا، وترك لنا درسًا في كيف تكون الحياة رسالة، وكيف يكون الإنسان منارة.